قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "مَنْ أرادَ الله بهِ خَيرًا فقهَهُ في الدِّينِ"
فَصْلٌ في حُكْمِ تاركِ الصِّيَامِ
لَقَدْ تَعَرَّفْتَ -أيُّهَا التِّلمِيذُ الأَرِيبُ، لا بَرِحْتَ الطَّاعَةَ- أنَّ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ العَظِيْمِ، لا يَصِحُّ إيمَانُ امْرِئٍ إلا بالإِتْيَانِ بِهِ اعْتِقَادًا وعَمَلاً، وعَلَيهِ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصِّيَامَ فقَدْ أَحَلَّ عَلَى نَفْسِهِ بَرَاءَةَ اللهِ وحُدُودَهُ في الدُّنْيَا، وغَضَبَهُ وعَذَابَهُ في الأُخْرَى؛ قَالَ تَعَالى: ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
ولا يخلُو تَارِكُ الصِّيَامِ -معَ كَونِهِ بَالِغًا صَحِيحَ العَقْلِ- مِنْ أَحَدِ أَمْرَينِ:
إِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ جُحُودًا لِفَرْضِيَّتِهِ أَوْ إِنْكَارًا لَهُ بِالْكُلِيَّةِ: فهوَ مشركٌ مرتدٌ عنِ الدِّينِ والعِيَاذُ باللهِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ فَرْضَ صِيَامِ رَمَضَانَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ الخَمْسَةِ الَّتي لا يَقُومُ إِلا بها جمِيعًا، وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أيضًا، يَقُولُ الْعَلاَّمَةُ القَنُّوبيُّ -حَفِظَهُ الله وَعَافَاهُ-:"..وَمَنْ أَنْكَرَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ" ، وَحُكْمُهُ: أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ فَيُعْفَى عَنْهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ جُحُودًا واسْتحْلالاً لقَولِهِ تَعَالَى: ( قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، وَإِلا قُتِلَ مُرْتَدًّا عَنِ الدِّينِ والعِيَاذُ باللهِ، وَهَذَا حُكْمُ كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ باِلضَّرُورَةِ مِنْ غيرِ تَأوِيلٍ
وَإِمَّا أنْ يَترُكَهُ تَهَاوُنًا وَتكَاسُلاً مِنْهُ لا جُحُودًا وَإِنْكَارًا لَهُ: فَحُكْمُهُ: أَنَّهُ كَافِرٌ كُفْرَ نِعْمَةٍ لا كُفْرَ شِرْكٍ، فإنَّ الإِصْرَارَ عَلَى الصِّغَائِرِ يُعَدُّ مِنَ الكَبَائِرِ، فَكَيفَ بِالإِصْرَارِ عَلَى تَرْكِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامِ، يَقُولُ الإِمَامُ أبُو محمَّدٍ السَّالميُّ -رَحمةَ اللهِ عَلَيهِ-: "فهَذَا مُنْتَهِكٌ لحُرْمَةِ رَمَضَانَ، مُضيِّعٌ لِدِينِهِ هَادِمٌ لإِسْلامِهِ؛ لأَنَّ الإِسْلامَ إِنَّمَا بُنيَ عَلَى خَمْسٍ أَحَدُهَا الصِّيامُ، فَلا يَسْتَقِيمُ إِسْلامُ المرْءِ إِلاَّ إذَا اسْتَقَامَتْ أرْكَانُهُ.
فإِنْ وقَعَ مِنهُ مِثْلُ هَذِهِ الخَطِيئَةِ فعَلَيهِ أنْ يَتَدَارَكَ نَفْسَهُ مِنَ الهَلاكِ، ويَرجِعَ إِلى اللهِ بِالمتَابِ، ويَقْضِيَ مَا ضيَّعَ؛ لأَنَّ القَضَاءَ لازِمٌ عَلَى مَنْ أفطَرَ بِعُذْرٍ، فمَا ظنُّكَ بمنْ أفْطَرَ بغَيرِ عُذْرٍ!! بَلْ هُوَ أَشَدُّ وأَوْلى".
وعَلَى هَذَا الشَّخْصِ أنْ يُسْتَتَابَ ثَلاثًا فَإِنْ تَابَ وَجَبَ عَلَيْهِ القَضَاءُ والتَّكْفِيرُ عَنْ جمِيعِ مَا تَرَكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا كتَارِكِ الصَّلاةِ والزَّكَاةِ، واللهُ المستعانُ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ فعَلَى كُلِّ مَنْ تَرَكَ شَيئًا مِنْ أيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ جُحُودًا أو تهَاوُنًا أنْ يَسْتَبِقَ أيَّامَهُ بالمتَابِ قبْلَ الممَاتِ، قبْلَ أَنْ يَنزِلَ بِسَاحَتِهِ رَيْبُ المنُونِ بِلا خَبرٍ أو مِيْعَادٍ، فَتَتَحَشْرَجُ الرُّوحُ في الحُلْقُومِ، وتَدُورُ الأَعْينُ لما يَغْشَى صَاحِبَهَا مِنْ سَكَرَاتِ الموْتِ وزَفَرَاتِ الرَّحِيْلِ، فيُغلَقُ بَابُ التَّوبَةِ، وحِينَهَا لا يَقبَلُ اللهُ مِنَ العَبْدِ صَرْفًا ولا عَدْلاً ، فالبِدَارَ البِدَارَ إِلى الرُّجُوعِ إلى العَزِيزِ الغَفَّارِ قَبْلَ أنْ يُنَادَى: (لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ {، فيُجَابُ: } لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)
يقولُ شَاعِرُ العُلَمَاءِ وعَالمُ الشُّعَرَاءِ -رَحمهُ اللهُ- مُزَهِّدًا ومُرَغِّبًا:
وَالبِدَارَ البِدَارَ لِلْمَوْطِنِ الدَّا
** ئِمِ حَيْثُ الحَيَاةُ أَلْقَتْ عَصَاهَا
من
المعتمد
فقه الصيام صفحة 38،37،36،35